الحياة تحت الصفر

إنجي موراث | سلسلة الأقنعة

 

صدر مؤخّرًا للكاتب والشاعر اللبنانيّ، عبّاس بيضون، مجموعة شعريّة جديدة بعنوان «الحياة تحت الصفر»، عن دار «هاشيت أنطوان - نوفل». كُتبت هذه المجموعة، خلال فترة الحجر الممتدّة بسبب وباء كورونا الذي لا يزال مستمرًّا بتبعاته حتّى اليوم، من خلال ثيمة القصائد التي تتأرجح بين «العزل والعُزلة"، والتي يصفها الشاعر في نبذة الكتاب:

"صاخبة هي هذه العزلة. مسكونة بأشباح من كانوا وما كان. شاحبةٌ هي. قاسية، عنيفة، ممتدّة، لا قرار للصوَر الاستعادية التي تستفزّها: الشارع. المقهى. الأصحاب. صوت الحياة...
كلّ ذلك مسجونٌ الآن في مرايا هي الشاهد الوحيد على ما كان، والتحدّي الأصعب لما سيأتي: هل ستظلّ وجوهنا هي ذاتها فيها بعد انتهاء الجائحة؟ يسأل الشاعر المتروك لهواجسه في هذه المحنة، الغارق في تأمّلاته، والمتفرّج المسكون بالفراغ الذي منه بدأ كلّ شيء وإليه كلّ شيء ينتهي".

 

تنشر فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، قصيدة من المجموعة بعنوان «قارب المجذومين»، بإذنٍ من ناشرها.

***

 

غلاف المجموعة

قارب المجذومين

 

أولئك الذين لم يموتوا

جاؤوا إلى هذا الرصيف

لكي يتأكّدوا

بعضُهم خرج من حجرات

ولا يزال داخل حيطانها

إنّها حصّته من الظلمة

نحت منها رأسه

الذي لا يزال على النافذة نفسها

لا يزال ذلك الفكّ

يطحن في العتمة

أسرارًا وحزازات

ومن هناك

يتحدّث إلى مجهولين موتى

أمّا الذين يتذكّرون أنّهم التقوا

بالحتف مرقومًا على الشاشة 

فهم في بلدة أخرى 

هي الآن وبعد قرون

مجرّد قارب

وليست أكثر من لطخة بيضاء

جامدة ومنتظرة

على سطح أزرق

إذ لا نزال قبل الفيروس

تقريباً في زمن «المعلّم»

الذي احتمى كلّ مرّة

بنوع آخر من الكورونا

لا يمكن أن نؤرّخ

إلّا بدءًا من أصناف مختلفة من الخوف

كلّ مرّة ظهر في الهواء

ذلك السرّ الذي تنشّقه الجميع

ولا يحتاج إلّا إلى رئة

مصنوعة لأجله

إنّها فقط الكلمة

التي لا نعرف متى تخرج

جرثومة

من الأرض حيث خُنقت

لا نعرف

متى يمكن أن يعيدوا زرعها

لا نعرف ماذا فعلنا

تابعنا فقط

ما سقط على الجانبين

(كانت الحياة لا تزال تعمل هناك)

ما يتشعّب في السرّ

إلى مدن وأقاليم

لم يكن سوى حائط من الدمار

الذي مشينا تحته

وتحت العين التي انبثقت من العتم

بدون فكرة تعيدها

إلى الظلمة نفسها 

التي بلا معنى

سوى البقاء مهجورة

ومحجورة

وغير مرئيّة

إلّا للموتى

هناك ذلك الثقب

الذي ابتلع ما بقي

جميع الذين تواروا

أكاذيب تعبت وهي تنتظر

أوان خروجها

وعودتها إلى الحياة

الجامدة فوق السطح

وبين الرسائل الموجّهة إلى كثيرين

واحدة لا تزال ترتجف

دعوة إلى السيّد

وربّما إلى الملاك

الذي سافر بجناحين شاهقين

فوق الذين تركهم الفيروس

لشقائهم الطبيعي

لخطايا السنّ

أو فوات الذاكرة

لم يكن هناك ما يستحقُّ

سقوط سماء بهذا الحجم

ولم تكن لتقع

على قارب للسحرة والمجذومين

باعة الحظوظ

وخدّام الدخائل

والنوايا النائمة

إذن ماذا نفعل

غير أن نرمي موتانا إلى البحر

الذي لأمرٍ ما

سوف يكون رائقًا وسعيدًا

لأمرٍ ما

سوف يعيدهم

أكثر وسامةً

لن يكون لدينا ما نشتريه

تلك المقايضة الكبرى

على مائدة الكلاب

ليست من حصّتنا

وليس هذا هو السعر

الذي يستحقّه الوباء

بالتأكيد

نشتري بالكورونا أثمن منه

ليس لدينا ما ندفعه

سوى هذا الصمت

الذي يزداد بلاهة

بالخبايا 

التي تتلوّث أكثر

كلّما وجدت اسمًا

أو وجدت إلهًا

 

 

عبّاس بيضون

 

 

شاعر وروائيّ لبنانيّ (1945)، صدرت له 7 روايات، بالإضافة إلى 9 دواوين شعريّة. درس في الجامعة اللبنانيّة وأمضى حياته متنقّلًا بين بيروت وباريس وبرلين. كان مسؤول الصفحات الثقافيّة في جريدة «السفير» اللبنانيّة لسنوات، تُرجمت قصائده إلى أكثر من لغة، منها الإنجليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والألمانيّة. له بصمات أساسيّة في قصيدة النثر العربيّة.